الحرب تعصف بمتاحف السودان وآثاره
يوجد في السودان ثلاثة مواقع أثرية وتراثية مدرجة ضمن قائمة التراث العالمي بعد إقرارها بواسطة منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة “اليونيسكو”، هي مواقع جبل البركل، ومواقع المنطقة النوبية التي أدرجت عام 2003، ويضم الجبل عدداً من المواقع الأثرية النوبية منها 13 معبداً، وثلاثة قصور وعدداً من الأهرام (نحو 15 هرماً) تحمل أسماء ملوك وملكات مملكة “كوش” خلال تلك الفترة، ثم أضيفت منطقة مروي عام 2011.
باتت غالبية المواقع الأثرية السودانية لا سيما التي في مرمى المعارك والقتال تواجه تهديدات خطرة تمس وجودها، وتتزايد المخاوف بصورة أساس على مواقع جزيرة مروي الثرية (النقعة، والمصورات، والمدينة الملكية وأهرام البجراوية) التي تمثل معقل آثار مملكة “كوش” التي يتجاوز عمرها 2300 سنة، بولاية نهر النيل شمال البلاد، والمدرجة منذ 2011 ضمن قائمة التراث العالمي، وباتت الآن مع مواقع أثرية وتراثية أخرى تحت رحمة المعارك، بصورة تعرضها للتخريب والتدمير والانهيار والاندثار والسرقة والتهريب.
قمة المخاوف
وثمة مخاوف من وصول المعارك بين الجيش وقوات “الدعم السريع” إليها بصورة مباشرة أو نتيجة الإهمال الذي ظلت تتعرض له طوال عام من الحرب لغياب المراقبة وتوقف تدابير الصيانة الوقائية المرتبطة بنظافة الأملاح التي بدأت تتسبب بتآكل جدران المعابد الجنائزية إلى جانب تزايد عمليات الزحف الصحراوي الرملي وتجمعات الكثبان الرملية المتكدسة في مناطق الأهرام والمناطق الحساسة الأخرى، مما يعني خطراً متزايداً يهدد المعابد والأهرام بالردم والدفن ومحو وتآكل النقوش والرموز على جدرانها.
أخطار متصاعدة
وتضم جزيرة مروي ثلاث مجموعات أثرية، هي العاصمة الكوشية مروي، إذ المدينة الرئيسة والمقبرة، وموقع “النقعة” و”المصورات” وأهرام البجراوية، وهي تمثل أهم المواقع السودانية التاريخية المسجلة ضمن قائمة التراث العالمي.
وفق “اليونيسكو” تضم الجزيرة من بين آثار أخرى، الأهرام والمعابد والتماثيل ومزارات منذ الحقبة المروية (350 ق م، حتى 350 م)، إلى جانب مساكن ومنشآت كبرى، تتصل كلها بشبكة واحدة للمياه، وإمبراطورية الكوشيين كما وصفتها المنظمة ذات امتدادات على مساحة شاسعة من البحر الأبيض المتوسط حتى قلب أفريقيا، وشهدت خلالها تلك المنطقة تبادلاً في الهندسة والفنون واللغات والأديان بين المنطقتين.
وأكد المدير المقيم لهيئة الآثار والمتاحف السودانية، بموقع أثار مملكة مروي، محمود سليمان أن المهددات كبيرة وتختلف من موقع إلى آخر، “ففي موقع النقعة والمصورات المتاخمة لخط النار بحكم وقوعها في منطقة قتال مباشر، دارت اشتباكات عديدة وكان هناك ظهور لطرفي القتال داخل هذا الموقع، كما تم حالياً زرع ألغام أرضية في هذا الموقع”. وتابع “تتعاظم المخاوف على هذا الموقع ليس فقط من القتال والمعارك الحربية، التي يمكن أن تؤثر بصورة كبيرة في الصروح والمعابد الأثرية، إذ إن مخزناً يضم مجموعة من القطع الأثرية بمنزل البعثة الأثرية الألمانية التي كانت تعمل بالموقع أصبح معرضاً للنهب والسرقة والتعدي، وتجري الآن جهود حثيثة بالتنسيق لإخراجها من هناك ونقلها إلى مكان آمن “.
وتعتبر “اليونيسكو” المواقع الأثرية في جزيرة مروي الواقعة في مناطق شبه صحراوية بين نهري النيل وعطبرة، مركزاً لمملكة “كوش” كقوة عظمى بين القرنين الثامن والرابع قبل الميلاد، وتتألف من الحاضرة الملكية للملوك الكوشيين في مروي، قرب نهر النيل ومن المواقع الدينية في “النقعة” و”المصورات الصفراء”.
مهددات الطبيعة
ويواجه موقع الأهرام بالبجراوية تهديدات كبيرة مباشرة وغير مباشرة بسبب الحرب، تتمثل في غياب وتوقف فريق العمل الميداني الخاص بالمراجعة والصيانة الدورية على مدى أكثر من عام كامل منذ اندلاع الحرب، إذ أدى الزحف الصحراوي وفق سليمان، إلى تراكم الكثبان الرملية التي تؤثر في سلامة الحجر الرملي الهش وما عليه من نقوش ورسومات، فضلاً عن تداعيات الأمطار الغزيرة التي شهدتها المنطقة في الموسم السابق “إذ يؤثر تسرب المياه وارتفاع الرطوبة بصورة مباشرة على جدران الأهرام والمعابد الجنائزية”.
ونوه بأن الهاجس الأكبر بعد معاينة الموقع كان ظهور أملاح على الحجر الرملي بسبب الرطوبة “وقد ظهر هذا الأمر في عديد من المعابد الجنائزية التي تمت معاينتها”.
تهديد الأهرام والمعابد
وفي ما خص حماية هذه الآثار فيقع الأمر على عاتق الخفراء التابعين لهيئة الآثار والمتاحف، غير أن هناك مواقع أخرى لا نستطيع الوصول إليها، ونعمل بالتنسيق مع الجيش للحصول على إذن للوصول إلى موقعي “النقعة” و”المصورات”، أما بالنسبة إلى موقعي الأهرام والمدينة الملكية ” فعلى رغم أن الوصول إليهما متاح فإن ضعف الإمكانات يحول دون القيام بأي عمل ميداني للوصول إلى تلك المواقع وتفقدها، وليس بإمكاننا سوى المراقبة وكتابة التقارير وطلب الدعم والتمويل من الجهات المتخصصة والمنظمات المعنية والمهتمة”.
وناشد سليمان سرعة الاستجابة للنداء المعلن لتوفير الإمكانات حتى تتمكن الجهات المعنية من سرعة القيام ببعض الإجراءات الوقائية في ما خص تنظيف الأملاح من جدران المعابد الجنائزية وإزالة تجمعات الكثبان الرملية المتكدسة في مناطق الأهرام والمناطق الحساسة الأخرى”.
كذلك يتعرض موقع المدينة الملكية المتاخمة لنهر النيل لمهددات كبيرة بفعل عوامل التعرية الطبيعية.ورأى المدير المقيم لهيئة الآثار والمتاحف السودانية أن مسألة الاستعداد لموسم الفيضان والخريف المقبلين مسألة ملحة لتفادي مزيد من التدهور بالمدينة الملكية.
جبايات ولا صرف
ولفت سليمان إلى توقف مشروع البعثة القطرية لأهرام السودان بعد أن كانت مشروعاً واعداً بإمكانات كبيرة بدأت في عمل بنيات أساسية لتأهيل وتطوير الموقع وخطوات للتأمين والصيانة والترميم لعرضه بالشكل اللائق، “ولقد بدأت البعثة بالفعل في تطوير الموقع وصيانته، وشمل عملها إنجازات كبيرة بفتح غرف الدفن في عدد من الأهرام، لكن للأسف توقف المشروع”.
وشكا سليمان من توقف الصرف المالي على المواقع الأثرية وصيانتها ومتابعتها من قبل الهيئة العامة للآثار والمتاحف كممثل لحكومة السودان، منذ عام 2020 “من ثم أصبحت هناك صعوبة في تمويل فريق المراقبة الدائم، أما إيرادات وعوائد السياحة فتذهب كلها إلى خزانة حكومة ولاية نهر النيل من دون حصول الموقع على نصيب لصيانته والصرف عليه”.
وتواصلت المساعي من دون جدوى طوال فترة غياب المشروع القطري لاستقطاب تمويل جديد لضمان مواصلة عمل فريق المراقبة والصيانة الدورية.
مصير المتاحف
في السياق، أوضح متخصص الآثار فوزي بخيت أن ضرر هذه الحرب الكارثية على آثار وتراث السودان لم يقتصر فقط على مملكة مروي معقل حضارة “كوش” فحسب، “لكنه شمل التراث السوداني المادي وغير المادي سواء بصورة مباشرة بسب القتال والتعديات على المتاحف مثل متحف بيت الخليفة المجتمعي الذي يضم أهم آثار الفترة المهدية وفترتي الحكم الثنائي (التركي – المصري والإنجليزي – المصري للسودان)، والذي تعرض لتدمير ممنهج للقطع الأثرية والمخازن، ولم يسلم المبني من دمار جزء منه، إلى جانب متحف القصر الجمهوري الذي يحوي وثائق مهمة لمختلف فترات حكم البلاد حتى اليوم، فضلاً عن الهدايا التذكارية كالسيارات التاريخية للرؤساء الذين تعاقبوا على حكم السودان”.
إنقاذ ما يمكن
وشدد بخيت على ضرورة مواجهة التهديدات المحتملة في ظل زحف الحرب واحتمال توسعها بخاصة نحو الشمال، مشيراً إلى طرح مبادرات عدة من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه، لافتاً، في الوقت نفسه، “إلى إيصال الصوت للجهات ذات الصلة من طرفي النزاع والمنظمات العالمية ولا سيما يونيسكو وإيكروم، ومنظمات الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات المهتمة”. وطالب بضرورة أن تنشط عمليات الحماية الشعبية والمجتمعية للحفاظ على ما تبقى من آثار، “مثلما حدث بمتحف جبل البركل، وقبلها في ود مدني الجريحة، وولاية سنار”.
ليست هناك تعليقات:
اضافة تعليق